قبل أكثر من عامين، صوّت البريطانيون بأغلبية 52 مقابل 48 لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. وتبعاً لهذه النتيجة، فعّلت رئيسة الوزراء تيريزا ماي الفصلَ 50 من اتفاقية الاتحاد الأوروبي، مطلِقةً بذلك خروج بريطانيا من الاتحاد، والمقرر تنفيذه في 29 مارس المقبل.
لكن على بعد أقل من أربعة أشهر، ما زالت مسألة ما إن كانت بريطانيا ستنسحب من الاتحاد الأوروبي أم لا؟ تمثِّل سؤالا مفتوحاً. بل إن أسواق الرهان السياسي البريطانية راهنت يوم الثلاثاء ضد حدوث البريكسيت في الربيع المقبل.
ولفهم لماذا قد لا يترجَم تفويض الاستفتاء إلى انسحاب بريطانيا من أوروبا مثلما هو مقرر، على المرء أن يأخذ بعين الاعتبار علاقة النظام السياسي البريطاني المشحونة مع الديمقراطية المباشرة.
بريطانيا والولايات المتحدة لديهما شكلا حكم ديمقراطيان. لكن إذا كان النظام السياسي الأميركي يمنح وزناً مهماً للصوت المباشر لمواطنيه في عمليات صنع القرار، فإن النظام البريطاني لا يفعل ذلك. فالبرلمانيون البريطانيون ينظرون إلى دورهم باعتباره تمثيلًا لمصالح ناخبيهم في البرلمان، وليس التصرف وفق آراء الناخبين المعبَّر عنها. وهذا أحد الأسباب التي تفسر لماذا تُعد الاستفتاءات ومبادرات الاقتراع، وإن كانت شائعة ومألوفة في أجزاء من الولايات المتحدة، نادرةً للغاية في بريطانيا.
لم يستخدم الاستفتاء في بريطانيا إلا نادراً. ففي 1973، مثلا، انضمت بريطانيا إلى «المجموعة الاقتصادية الأوروبية» دون اللجوء إلى استفتاء، ولم يشكك أحد حينها في حق الحكومة باتخاذ القرار نيابة عن البلاد.
وبين 1975 و2016، لم يحدث سوى استفتاء وطني واحد في بريطانيا. لكن في 2016، ارتكب رئيس الوزراء المحافظ ديفيد كامرون الخطأ المصيري حين دعا لاستفتاء كان يعتقد أنه سيُظهر مرة أخرى دعمَ الأغلبية للبقاء في الاتحاد الأوروبي وإسكات المعارضين لأوروبا. لكن النتيجة جاءت عكس ما كان يريده.
ولئن كانت أغلبية أعضاء البرلمان في حزب كامرون، وعبر البرلمان، قد أيدت البقاء في الاتحاد، فإن الشعب صوّت لصالح الانسحاب. هذه النتيجة أدت إلى استقالة كامرون واستبداله بماي، التي كانت تشغل منصب وزيرة الداخلية في حكومته. وبعد قرابة عامين من المفاوضات، وافقت حكومة ماي على شروط «الطلاق» مع أوروبا. واليوم، تواجه الحكومة امتحان تمرير الاتفاق المقترح عبر البرلمان. مهمة تبين أنها ليست سهلة.
الموضوع الأساسي هو ما إن كان مجلس العموم سيتلقى التوجيهات من آراء أعضائه أم من آراء ناخبيه، مثلما عبّرت عنها نتائج استفتاء 2016. فالحكومة تقول إنه يجب الالتزام بـ«تفويض» الاستفتاء. لكن عدداً متزايداً من أعضاء البرلمان أخذوا يعيدون التأكيد على السيادة البرلمانية لتقرير مستقبل بريطانيا.
والأسبوع الماضي، منيت الحكومة بهزيمة مهمة مع تمرير مقترح للسماح للمجلس باقتراح تعديلات مهمة لأي مقترحات جديدة بخصوص البريكسيت تتقدم بها الحكومة في حال فشل مخطط البريكسيت الحالي في الحصول على تأييد في البرلمان. المقترح، الذي مرر بأغلبية 321 صوتا مقابل 299، يشجع مؤيدو البقاء في أوروبا فعليا على التصويت ضد مقترح ماي الحالي على أمل أن يصبحوا قادرين لاحقا على التدخل في الجولة المقبلة من النقاش وتقديم تعديلات تخفّف وتليّن بشكل مهم البريكسيت، أو حتى توقفها ربما.
هذه الانتصارات التي حققها مؤيدو البقاء في أوروبا تكشف التوترات بين الديمقراطية المباشرة والحكومة التمثيلية. فقد قال وزير التجارة الدولية «ليام فوكس»، محذراً: «أعتقد أن ثمة خطراً حقيقياً لإمكانية أن يحاول مجلس العموم سرقة بريكسيت من الشعب البريطاني».
بيد أنه إذا كان الاستفتاء الأول قد شكّل خطأ، فإن «تصويت الشعب» مجدداً لن يعمل سوى على تكريس ذاك الخطأ الأول. إذ من الصعب تصور كيف يمكن أن ينظر أنصار البريكست إلى تصويت لصالح «البقاء» في استفتاء ثان على أنه يكتسي شرعية أكثر مما فعل الاستفتاء حول الانسحاب في 2016. وبدلا من التطلع إلى استفتاء ثان من أجل إلغاء أخطاء الاستفتاء الأول، ينبغي على أعضاء البرلمان المؤيدين للبقاء إعادة التأكيد على ضميرهم، والتصويت لصالح عكس البريكست. والأكيد أن القيام بذلك لن يمثّل إهانة للديمقراطية، وإنما انتصاراً تمثيلياً.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»